سأبدأ بقلب السؤال من "ماذا يريد الكرد في سوريا؟"، إلى "ماذا يريد العرب من الكرد في سوريا؟". ما هي صورة الكردي الجيد في الوعي العربي؟ هل يقبل العرب المساواة مع الكرد في سوريا؟ في تأمل هذه الأسئلة يمكننا أن نلمس محنة الكرد السوريين. في الوعي العربي العام يكون الكردي مقبولاً أكثر كلما كان لا كردياً أكثر، أو قل كلما كان عربياً أكثر. أن لا يتكلم لغته، أن لا يذكر كردستان في اسم الحزب، أن يردد في الصباح "أمة عربية واحدة"، أن لا يسجل ابنه باسم كردي، أن يسكت عن تغيير أسماء مناطق تواجده ..الخ. عندئذ يختفي الكردي، أي "يندمج" وتختفي المشكلة، كما عبر رئيس النظام السوري عقب أحداث القامشلي حين قال في أيار 2004: "والقومية الكردية جزء أساسي من النسيج السوري ومن التاريخ السوري، ومندمجة بشكل كامل". ربما كان هذا الإنكار لحقوق الكرد القومية هو الانسجام الوحيد بين الأنظمة الحاكمة وقطاع واسع من العرب السوريين، المؤشرات الكبيرة تشير إلى هذا (منها الموقف العام من التجريد من الجنسية منذ 1962، والموقف من أحداث القامشلي 2004).

في  الواقع، التفاضل العربي الكردي قائم ومتبادل منذ زمن. معظم الأحزاب الكردية فصلت نضالها عن النضال السوري العام ولم يتضامنوا مع السوريين في تاريخ مواجهاتهم مع النظام الديكتاتوري، والسبب هو خوفهم من ارتداد النظام عليهم مع شعورهم بالضعف وعدم ثقتهم بالتضامن العربي معهم. والعرب السوريون، عموماً، لم يتضامنوا مع الكرد في مظالمهم معتبرين أنه ليس للكرد حقوق في سوريا أو أنهم انفصاليون ..الخ. النتيجة هي تفاصل المستبَد بهم وتنافرهم رغم أن الجهة المستبِدة بهم واحدة وتحرص دائما على تغذية هذا التنافر. حتى في الثورة السورية 2011، بقي ثمة "سطح تسليخ"، إذا استعرنا هذا المصطلح الجراحي، بين الكرد والعرب السوريين، ولم يصمد طويلاً شعار الثورة (الشعب  السوري واحد).

لا يخفى على أحد مقدار الظلم الذي وقع على الكرد بفعل تشتتهم في أربع دول وحرمانهم من دولتهم المستقلة بتأثير تطورات وتوافقات دولية في الربع الأول من القرن العشرين جاءت بالمحصلة على حساب وحدتهم السياسية. وبفعل هذا الظلم المزمن ليس غريباً، وإن يكن مرفوضاً، أن يتطور لدى الكرد مطامح متطرفة ومبالغة في تقدير الحقوق. في سوريا مثلاً هناك من الكرد من يبالغ في نسبة الكرد من سكان سوريا، وهناك مبالغات في تحديد المناطق الكردية، مثل الخارطة التي وزعها مركز (ياسا) الكردي للدراسات والاستشارات القانونية تحت اسم "إقليم كردستان في سوريا"، والتي تقتطع شريطاً متواصلاً من شمال سورية يمتد من المالكية إلى لواء اسكندرون، بمساحة تعادل مساحة لبنان. ومن الطبيعي أن يولد هذا رد فعل تطرفي عند العرب. الاعتدال والعدل هي الأرضية المشتركة التي يمكن أن تستقر عليها العلاقة بين أبناء القوميتين.

ربما كانت المسألة الكردية في سوريا أكثر إرباكاً بسبب انعدام التواصل الجغرافي بين مناطق تواجد الكرد الرئيسية (الجزيرة، كوباني، عفرين)، فضلاً عن تواجد أعداد كبيرة منهم خارج هذه المناطق، إلى ذلك فإن الوعي السياسي السوري (الكردي منه والعربي) لم يتعامل حتى الآن مع سورية كوطن نهائي بل كظرف مؤقت مفروض من خارجه، أي إن سوريا الحالية لا ترضي ساكنيها وهي في مطامحهم السياسية محطة لا أكثر. القومي العربي ينظر إلى سورية كحالة انتقالية على أمل الوحدة العربية ولا يعترف إلا بالوطن العربي، والإسلامي ينظر إليها كجزء من عالم إسلامي لا بد أن يتوحد يوماً، والشيوعي كجزء من أممية عالمية والقومي السوري كجزء من سوريا الكبرى..الخ. بعد تعثر الثورة السورية التي اندلعت في آذار 2011 بدأت تكثر تعابير مثل (الوطن السوري) وبدأت تتشكل لأول مرة أحزاب تنسب نفسها إلى سوريا بحدودها الحالية، متخلية عن الامتداد القومي العربي لسوريا أو قل متخلية عن حلم الوحدة العربية، وهذا فتح الطريق أمام الحديث عن (الأمة السورية)، وهو مصطلح بات يستخدم وإن بحذر. ولكن توشك سوريا الحالية نفسها أن تتداعى في صراع سقيم وأن تتشظى إلى "أمم". وللكرد وزن فاعل في رسم مستقبل سوريا، ولن يكون لسوريا مستقبل لا يكون للكرد فيه حقوقهم القومية المصانة دستورياً إلى جانب العرب. هل يدرك العرب أن الكثرة لا تعطيهم الحق في الأولوية على شركائهم في الوطن، وأن في احترام المواطنة المتساوية نجاة للجميع؟ ولكن هل يمكن أن ينضوي الانتماء القومي الكردي والعربي تحت راية الوطنية السورية؟ هل يمكن لأبناء كلا القوميتين أن يقطعوا التيار عن أحلامهم القومية الكبرى ويرضوا بسوريا وطناً نهائياً؟

كان هناك دائماً أرضية زلقة تحكم العلاقة بين القوميات، أرضية من انعدام الثقة والاستعداد لإطلاق مخزونات من العدائية كامنة في الوعي العام لكل أبناء قومية تجاه الأقوام الأخرى. عقود من الحكم الشيوعي السوفييتي لم تخفف من قوة النزعة القومية عند شعوب الاتحاد السوفييتي الذي ما أن جنح باتجاه تخفيف قبضة الاستبداد الشيوعي حتى جنحت قومياته إلى الاستقلال، وبعضها فعل ذلك ولو على حساب الوضع الاقتصادي للناس. حتى في أوروبا التي نجحت في إنجاز مقدار كبير من وحدتها الاقتصادية والسياسية، لا تزال النزعة القومية (كإطار تعريف وانتماء أو هوية) حاضرة ولها فعلها في السياسة، وهناك من الاستراتيجيين من يرجح أن تعمل هذه النزعة على تفكيك الوحدة الأوروبية حين يتباطأ النمو الاقتصادي. نقول لا تزال النزعة القومية حاضرة، بما يوحي أن هذه النزعة تميل إلى الزوال، في حين لا توجد تجربة تاريخية تعطي أدلة كافية على هذا. القاعدة أن النزعة القومية راسخة وتشكل ركيزة لصراعات لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. وتزداد هذه الصراعات حين يكون ثمة تجاور جغرافي (كما هو الحال بين العرب والكرد)، فالتجاور الجغرافي يشحن الحساسية القومية بنزاعات لانهائية على الحقوق والحدود والأملاك والتاريخ ..الخ.

في إجابتي على سؤال الملف، وجدتني أطرح أسئلة أكثر مما أجيب. أملي أن يخرج من الجحيم السوري الحالي وعي سوري عام يدرك فيه العرب والكرد أنهم أهل بيت واحد، مختلفون بالقومية ومتساوون في الحقوق. هذا الوعي من مقدمات بناء النظام السياسي الديموقراطي.